خبر عاجلسياسةمقالاتمقالات

إيمان غنيم تكتب: ترامب وأوهام الإمبراطورية.. استعلاء القوة أم سقوط الدبلوماسية؟

إعلان

بقلم_ إيمان غنيم

حين يتحدث رئيس الولايات المتحدة بلغة الأوامر، وكأنه إمبراطور يقسم العالم إرثًا بين يديه، فإننا نكون أمام مشهد استثنائي في تاريخ العلاقات الدولية، مشهد تتجلى فيه ملامح الغطرسة السياسية بأوضح صورها. لقد جسّد دونالد ترامب في تصريحاته مبدأ الاستعلاء الأمريكي على نحو فج، وكأنه يعيد إنتاج خطاب القوى الاستعمارية في القرن التاسع عشر، لكن بأسلوب أكثر صراحة وابتذالًا.

الهيمنة في صورة مطالب

تصريحات ترامب لم تكن مجرد تهويمات إعلامية أو زلات لسان عابرة، بل كانت تعبيرًا أصيلًا عن عقلية ترى في العالم سوقًا ممتدًا لمصالح الولايات المتحدة، وفي الدول الأخرى محطات خاضعة لهذه المصالح. فقد طالب الدنمارك بالتنازل عن غرينلاند كما لو أنها مقاطعة أمريكية ، ودعا كندا للانضمام إلى الولايات المتحدة وكأن سيادة الدول مسألة تفاوضية يمكن شطبها بمرسوم. أما قناة بنما، التي تحررت بعد نضال طويل، فقد رآها ترامب مجرد ممر مائي يجب أن يعود للقبضة الأمريكية.

أما السعودية، فكانت مطالبه منها أشبه بجباية إمبراطورية، حيث أراد استثمار تريليون دولار في الاقتصاد الأمريكي، وكأن الثروات الوطنية يجب أن تُدار وفق المصالح الأمريكية لا وفق احتياجات شعوبها. ولم يكن الشرق الأوسط بعيدًا عن هذا النهج، فقد طرح رؤيته لحل القضية الفلسطينية لا عبر إنهاء الاحتلال، بل بتحميل مصر والأردن مسؤولية استيعاب سكان غزة، مما يعكس ازدراءً تامًا للحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.

وفي سياق علاقاته مع الحلفاء، لم يكن لترامب سوى لغة واحدة: الدفع مقابل الحماية. طالب دول الناتو برفع إنفاقها العسكري إلى 2% من ناتجها القومي، مطالبًا أوروبا بالانصياع، وأراد من ألمانيا واليابان دفع مليارات الدولارات مقابل بقاء القوات الأمريكية على أراضيهما، في تأكيد لمفهوم “الحماية المدفوعة”، كما لو أن الجيش الأمريكي قوة مرتزقة لا تتحرك إلا وفق ميزانيات مموليها.

أزمة أخلاقية: ترامب يوقف أدوية الإيدز والملاريا عن الدول الفقيرة

لم تقتصر سياسات ترامب على فرض الإملاءات السياسية، بل امتدت إلى قرارات أكثر خطورة تمس حياة الملايين في الدول الفقيرة. إذ أصدر أوامر بوقف توريد أدوية الإيدز والملاريا إلى هذه الدول، وكأن المرض والفقر لم يكونا كافيين لمعاناة الشعوب التي تعتمد على المساعدات الطبية لإنقاذ أرواح أبنائها.

إن قرارًا كهذا لا يعبر عن مجرد سياسات تقشفية أو إعادة توزيع للموارد، بل يعكس رؤية متوحشة تتعامل مع صحة البشر كأداة ضغط سياسي. فالإيدز والملاريا ليسا مجرد أمراض، بل تهديدات حقيقية تحصد أرواح الملايين سنويًا، خصوصًا في إفريقيا، حيث يعتمد العديد من المرضى على المساعدات الأمريكية لعلاجهم.

إن تعليق المساعدات الطبية ليس مجرد قرار اقتصادي، بل جريمة أخلاقية في حق الإنسانية، وهو ما يذكرنا بمقولة الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط: “الإنسان ليس وسيلة، بل غاية في ذاته.” لكن ترامب، في قراره هذا، جعل حياة البشر مجرد ورقة مساومة في لعبته السياسية.

قطع المنح والقروض: حصار اقتصادي للعالم النامي

لم يتوقف الأمر عند الصحة، بل امتد ليشمل الاقتصاد، حيث أصدر ترامب أمرًا بتعليق جميع المنح والقروض الحكومية على المستوى الفيدرالي، مما يعني أن الدول النامية التي تعتمد على هذه التمويلات لدعم مشاريعها التنموية ستواجه أزمات اقتصادية خانقة.

هذا القرار يعيد إلى الأذهان سياسات الهيمنة التي مارستها القوى الاستعمارية في القرن الماضي، حين كانت تسيطر على مقدرات الشعوب عبر التحكم في تدفق الأموال والمساعدات. وبذلك، أصبح ترامب يمارس سياسة “العقوبات المقنّعة”، حيث يُحاصر الدول الفقيرة اقتصاديًا لا لأنها ارتكبت جرمًا، بل لأنها لا تخضع لرؤيته السياسية.

الرؤية الإمبراطورية: الاقتصاد كسلاح والسياسة كابتزاز

لم يكن نهج ترامب محصورًا في السياسة الأمنية والعلاقات الدولية فقط، بل تعدّاه إلى الاقتصاد، حيث مارس ضغوطًا على الصين لزيادة استيرادها من الولايات المتحدة، ووجه أوامره لمنظمة أوبك برفع إنتاج النفط من أجل إضعاف روسيا. هذا المنطق الاقتصادي الذي يقوم على الإكراه يذكرنا بمقولة نعوم تشومسكي: “الولايات المتحدة لا تتفاوض، بل تفرض، فهي لا تعرف سوى لغة الهيمنة.”

إن هذه الرؤية تجعل من العلاقات الدولية مجرد سوق مفتوح للابتزاز السياسي، حيث يتم توجيه العالم كما لو كان مشروعًا تجاريًا ضخمًا يخضع لمبدأ الربح والخسارة فقط، دون اعتبار للمبادئ أو الأخلاق أو حتى سيادة الدول.

نقد فلسفي: هل القوة تُبرر الغطرسة؟

في العمق، تعكس تصريحات وقرارات ترامب سؤالًا فلسفيًا قديمًا: هل تبرر القوة فرض الإرادة؟ هل يحق للقوي أن يعيد رسم حدود العالم وفق مصالحه؟ هنا نستدعي نيتشه، الذي رأى أن إرادة القوة هي الدافع الحقيقي وراء أفعال البشر، لكن ترامب لم يقرأ نيتشه بعمق، إذ أنه لم يفهم أن القوة الحقيقية ليست في فرض الأوامر، بل في القدرة على الإقناع وخلق نظام عادل.

ومن زاوية أخرى، نجد أن كارل ماركس قد تنبأ بمثل هذه النزعة الاستعمارية، حين قال: “الرأسمالية لا تعيش إلا عبر التوسع الدائم، فكل ما لا يمكنها ابتلاعه، تسعى إلى تدميره.” وهذا ما رأيناه في مطالب ترامب التي سعت إلى إعادة تشكيل العالم وفق منطق الربح الأمريكي فقط، غير عابئة بمصائر الشعوب أو استقرار الدول.

ختامًا: هل يكون ترامب شذوذًا أم نموذجًا؟

قد يظن البعض أن ترامب حالة استثنائية في السياسة الأمريكية، لكن الحقيقة أن سياساته ليست سوى تجلٍّ أكثر صراحة لنزعة الهيمنة الأمريكية التي سادت لعقود. الفرق أن الرؤساء السابقين كانوا يمارسون هذه السياسات بأسلوب دبلوماسي، بينما جاء ترامب ليقولها بصوت عالٍ دون مواربة.

لقد كشفت فترة حكم ترامب أن الغطرسة السياسية لم تعد تحتاج إلى قفازات ناعمة، بل يمكن أن تُقال علنًا، وكأنها حق مشروع.

لكنها أيضًا كشفت أن العالم لم يعد ساحة مفتوحة للإملاءات الأمريكية، وأن الشعوب، مهما بدت ضعيفة، لن تقبل بأن تكون مجرد أدوات في يد من يظنون أن الأرض ملك يمينهم.

إن التاريخ يعلمنا أن منطق القوة وحده لا يصنع أمجادًا دائمة، وأن الإمبراطوريات التي تستند إلى الغطرسة سرعان ما تنهار تحت ثقل أوهامها.

فهل يتعلم العالم من أخطاء الماضي؟ أم أن عجلة التاريخ ستعيد الدوران، ليأتي رئيس آخر بأوهام جديدة، لا تختلف عن أوهام ترامب، سوى في طريقة التعبير عنها؟

مقالات ذات صلة

رأيك يهمنا شارك الان

زر الذهاب إلى الأعلى