بورصة الراي

جواهر سينمائية ” الزوجة الثانية “

إعلان

بقلم / محمد رفعت زغابير

 

 

بعد أربعة أشهر فقط على نكسة 5 يونيو، شاهد المصريون فيلم “الزوجة الثانية” للمرة الأولى – بالتحديد فى الرابع عشر من أكتوبر سنة 1967 – ومعلوم أن “صلاح أبو سيف” أقدم على إعداد الفيلم وإخراجه قبل أن تهوى على الرؤوس المصرية مطرقة الهزيمة، لذا فإنه أصرّ على تصوير أسوأ ما فى العهد الملكى من عيوب، وخاصة فيما يتعلّق بحياة الفلاحين المُعدَمين فى الريف.

 

 

بحيلة ذكية، يستعير المخرج صلاح أبو سيف من تراثنا الشعبى لعبة “صندوق الدنيا” – وهى طريقة للسرد تعتمد على الراوى الذى يقص على الأطفال حكاية مثيرة من خلال عرض صور متحركة لأبطال هذه الحكاية وبعض مشاهدها بخطوط ورسم فنان فطرى – وكم كان الأمر موفّقًا حينما اختار المخرج الممثل القدير شفيق نور الدين ليلعب دور الراوى، ويحكى لنا – بصوته فقط – وقائع الفيلم، بعد أن أخبر الأطفال المجتمعين حول الصندوق فكرة موجزة عن هذه الدنيا وألاعيبها، وكيف تضم الفقراء المظلومين والأثرياء الظالمين، ثم تبدأ أسماء وصور الممثلين تتوالى على الشاشة فى لقطات مصنوعة بطريقة الرسوم المتحركة، التى أنجزها عبد العليم زكى وفريدة عويس، وكانت هذه الطريقة – أى طريقة الرسوم المتحركة – رائجة فى مقدمات السينما العالمية فى الستينيات، وقد انتقلت إلينا بصورة تلقائية.

 

 

يترنّم شفيق نور الدين بأسماء الممثلين فى الفيلم وحالاتهم من خلال أغنية كتبها صلاح جاهين ولحّنها سيد مكاوي، ونعرف أن ثلاثة كتبوا السيناريو، وهم: محمد مصطفى سامى، وسعد الدين وهبة، وصلاح أبو سيف نفسه، أما الحوار الرشيق الجميل فقد صاغه محمد مصطفى سامى منفردًا، وكان التصوير من نصيب المصوِّر الفنان عبد الحليم نصر، والذى استطاع أن يلتقط زوايا بالأبيض والأسود بالغة الرهافة والعذوبة، خاصة فيما يتعلّق بوجه سعاد حسنى.

 

 

لا يمكن تخيّل “الزوجة الثانية” دون الموسيقى التصويرية الآسرة التى أبدعها الموسيقار فؤاد الظاهرى مستلهمًا الإيقاعات الشائعة فى التراث الشعبى الحزين، وقد برع أبو سيف فى توظيف هذه الموسيقى فى الفيلم، من أول المُقدّمة حتى المشهد الموجع لهروب شكرى سرحان – يلعب دور “أبو العلا” – وزوجته فاطمة “النجمة سعاد حسنى”، وأبنائهم وأم الزوج، إذ لعبت الموسيقى والإضاءة الشاحبة لليل الدور الرئيسى فى إحساس المُشاهِد بمدى الظلم الواقع على هذه الأسرة المسكينة، التى قررت الفرار من شهوات العمدة وجبروته.

 

 

بعد أن تنتهى المقدمة تنفتح الشاشة على القصة الحقيقية للفيلم، فنشاهد العمدة عتمان – صلاح منصور – رمز البطش والسلطة والاستبداد، ممتطيًا حماره، سائرًا فى الطريق بين الحقول، وحوله ثلاثة من الخُفراء المُسلّحين بملابسهم الريفية المعهودة، وبصحبته المسؤول المالى العجوز “اسطفانوس أفندى”، الذى يُدوّن الحسابات ويزوِّرها لمصلحة هذا العمدة.

 

 

يتجوّل العمدة فى دروب القرية وأروقتها، وبتهديد غير مباشر يستولى على الدجاج والبط اللذين تنوى إحدى الفلاحات العابرات بيعهم فى السوق، وذلك حتى لا يُجرّ ابنها – طفلها 11 عامًا – إلى الجهادية “الجيش”، ثم نراه يتلمّظ من فرط الشهوة على سعاد حسنى حين يتفرس فى ساقها العارية وهى تغسل المواعين فى الترعة، فيهيم بها طوال الفيلم!

 

 

منذ اللحظة الأولى نتعرّف على هذا العمدة الذى يمتلك هو وزوجته حفيظة – تقوم بدورها الفنانة سناء جميل – 500 فدان، لكنّهما حُرِما من لذّة الإنجاب، كما نعلم أيضا ألا حدود للطمع عند هذا الرجل، إذ يودّ أن يستحوذ على 20 فدانًا خاصة بشقيقه علوان – يلعب دوره محمد نوح – حتى تصبح الفدادين الخمسمائة متصلة ومتجاورة!

يضم هذا الفيلم المتفرِّد فى تاريخنا السينمائى الكثير والكثير من المشاهد المُنفّذة باقتدار، خاصة وأن الممثلين كلهم يتمتعون بمهارات فائقة، استطاع المخرج تفجيرها للنهاية، حتى بلغوا جميعًا مستويات غير مسبوقة فى فن التمثيل، خذ عندك مشهد الذعر الذى انتاب العمدة وزوجته لأن الثانية قررت ذبح “وزّة” بناء على نصائح الخالة نظيمة التى تداويها لتنجب، والثانى أمر بذبح بطّة استجابة “لوصفة” العطار حسن البارودى، ولأنهما بخيلان، فقد أصيبا بالنكد من هذا الإسراف فى تقطيع الرؤوس!

 

 

كذلك مشهد تناول العمدة وزوجته “الوزة والبطة”، ومع ذلك لم يستطيعا التلاحم من أجل الإنجاب لأنهما غير سعيدين، بينما أبو العلا وزوجته – اللذان أكلا الأجنحة والرأسين فقط – قد ناما سعيدين مستمتعين بالغرام رغم فقرهما الموجع!

 

 

أما مشهد التلصُّص على النساء من ثقب الباب وهن يرقصن ويصفّقن فى حفل “السبوع”، ليختار العمدة إحداهن ليتزوجها، فيُمثّل قمة فى التمثيل والإخراج، ولا تنس مشهد إغواء “أبو العلا” بالمال ثم تهديده كى يُطلّق زوجته، وكيف تركز الضوء على وجه شكرى سرحان المغموم المرعوب المنكسر، الذى أُجبِر على تطليق زوجته بصوت متكسِّر مجروح، وتأمّل كذلك الأداء العبقرى للفنان حسن البارودى – الذى يلعب دور فقيه السلطان/ العمدة – بمهارة تجعل المشاهدين يكرهونه ويكرهون عُمدته!

 

 

شكرى سرحان فى دور أبو العلا وزوجته سعاد حسنى

 

 

لا يمكن أن ننسى أيضًا الغمّ الذى انتاب زوجة العمدة حين انفرد بسعاد حسنى، إذ نرى سناء جميل تتنصّت عليهما، وعندما تعلم سعاد حسنى ذلك تزيد فى كيدها لها، وتتصنّع أن هناك مداعبات بينها وبين العمدة، بينما هو فى حقيقة الأمر يغُطّ فى نوم عميق، وهنا تتسلّل الزوجة الأولى وتلصق أذنها بالباب، ويعلو صدرها ويهبط من شدّة الغل والكَمَد، ثم لا تقوى على الاحتمال فتصرخ شاتمة العمدة، قائلة: “اتحشّم يا أهبل يا أبو ريالة”، بما يصل بهذا المشهد لحدود أن يكون ذروة المشاهد الجميلة فى “الزوجة الثانية”، لما به من مهارات تمثيل وفنيات إضاءة وكيد نساء!

 

 

يُحسب للمخرج صلاح أبو سيف أنه تمكن من حشد كل الأدوات التى كان يستخدمها الفلاحون فى مصر فى الزمن القديم، وتطعيم مشاهد الفيلم بها قبل أن نلمس ثمار التكنولوجيا، وهذه الأدوات مثل: “الكانون” الذى يُستخدم لإشعال النار وإنضاج الطعام، و”الرحايا” لطحن الحبوب والغلال، والحمار والبهائم بوصفها وسيلة مواصلات، وغيرها من الأدوات ومفردات الحياة الريفية القديمة، كذلك امتاز الفيلم بإطلالة سريعة على العديد من العلاقات والطقوس الشائعة فى الريف المصرى فى ذلك الزمن، مثل: “السُّبُوع” وحَلْب الجاموسة وغسيل المواعين “الآنية” فى الترعة واللجوء إلى العطّار بدلًا من الطبيب للتدواى من الأمراض، إضافة إلى الرقص الشعبى وحلّاق الصحة واستثمار جهل الفلاحين بالعلوم الحديثة، وتبادل المصالح بين العمدة الظالم والمأمور المرتشى، إلى آخر ما يتضمّنه هذا الفيلم الآسر من علاقات ومشاهد مُعزَّزة بكتابة عميقة وتمثيل فاتن لا يخلوان من سخرية مُرّة رغم القتامة التى تُلوِّن الكثير من اللقطات.

 

 

يعد فيلم الزوجة الثانية من أهم الإنتاجات فى تاريخ السينما المصرية، وعلامة من علامات الإبداع، حيث تم اختياره من قبل فى الاحتفالات بمئوية السينما المصرية ليكون واحدا من أهم وأعظم مائة فيلم فى تاريخ السينما المصرية، ليس فقط لبراعة أداء نجوم الفيلم فى تجسيد الشخصيات، ولكن أيضا لأن الفيلم يحمل توقيع واحد من أهم المخرجين “صلاح أبوسيف”، لتجد نفسك أمام لوحة فنية متكاملة.

 

 

شخصيات العمل وأبطاله

 

مازلنا نتذكر تفاصيلها، فمن منا ينسى براعة صلاح منصور فى تجسيد دور العمدة الظالم الطماع الذى يستخدم نفوذه فى الوصول لكل ما يريد، والسندريلا سعاد حسنى الخادمة التى تزوجها العمدة رغما عنها، أما شكرى سرحان الذى جسد دور “أبو العلا” هذا الزوج المسكين الذى لا حول له ولا قوة، فقدم نموذجا حقيقيا للفلاح المغلوب على أمره الذى يبحث عن قوت يومه من أجل أسرته، ورغم ذلك يعيش فى سعادة لا يشعر بها العمدة صاحب الأطيان، ولا شك أن دور النجمة سناء جميل زوجة العمدة من أروع الأدوار التى قدمت فى تاريخ السينما.

 

 

أما مشاهد الفيلم فنكتشف أنها مازالت محفورة فى أذهاننا بحذافيرها، وبمجرد ذكر اسم “الزوجة الثانية” تأتى صورة المشهد الذى كان يحاول فيه العمدة إقناع أبو العلا بتطليق زوجته فاطمة ليتزوجها هو، فضلا عن الإفيهات والجمل الحوارية التى ذكرت على لسان أبطال الفيلم، فمازلنا نستعين بها فى مواقف حياتنا اليومية ولعل أشهرها “الليلة يا عمدة”.

 

 

وأشهر 10 جمل حوارية ذكرت فى الفيلم ومازلنا نتذكرها.

 

 

1- وأطيعوا الله ورسوله وأولى الأمر منكم.

 

2- إيه يا عمدة خسارة فيا؟ لا خسارة ليا.

 

3- فى الزريبة يا راجل يا ناقص.

 

4- صباحية مباركة يا عمدة..يا مية واكسة على الرجالة.

 

5- يا سلام ع الإنسانية يا سلام على الحنية.

 

6- جوزى؟؟؟ طب هو أنت جوزى.

 

7- هياكلهم أبو العلا وتبقى ليلة يا عمدة.

 

8- كل ما بتتقدمى بتتصبى وبتحلوى.

 

9- ادعولوا ادعولوا…وكمان ادعولوا..”يخربيت أبوه”.

 

10- “زى ما ليكى أنى ليا، وأكتر أنا معايا الواد.. أنى أم الواد”.

مقالات ذات صلة

رأيك يهمنا شارك الان

زر الذهاب إلى الأعلى