مقالات

هديل الحمام .. ذكريات محفورة بالعقل والقلب

إعلان

بقلم : رحاب عبد الخالق

فى مرحلة الطفولة وخاصة وأنا فى المرحلة الإبتدائية، كنت أحرص على قضاء فترة الأجازة الصيفية مع جدتى فى إحدى قرى المنوفية، بمنزل جدى الذى كنت أتمنى أن أراه وأتلمس شخصيته وعاداته وتقاليده التى رواه لنا والدى فى أوقات جلساتنا العائلية .

 

ولا أدرى لماذا أقترن صوت الحمام بهذه الأيام، فدائما حين أسمع هديل الحمام أتذكر جدتى حين كانت تستيقظ مبكرا لتفتح باب الدار على مصرعيه، بل بلغ حرصها أن تضع أمام كل دلفة من الباب حجر صغير حتى لا يغلق الباب، وتذهب لتقضى متطلبات البيت اليومية، فى كل أرجاء الدار بلاخوف ولا ذعر، فقلبها وعقلها يملأهما الأمان الكامل فلا سرقة ولا أحداث مرعبة .

 

بيت جدى كان ومازال ينقسم إلى قسمين، الأول يضم الباب الرئيسى للدار والتى تحرص جدتى بفتحه على مصرعيه طوال اليوم وصالة كبيرة، إلى جانب حجرة تسمى “حجرة المسافرين أو الضيوف” لإستقبال الضيوف وتشمل سرير كبير و5 كنبة بلدى وطرابيزة فى منتصف الحجرة عليها محار كبير(ودع) تستخدم لطفى السجائر، أما الأرضية فكانت مفروشة بالحصير الملون، ودورة مياه، والقسم الثانى يسمى “وسط الدار” يضم حجرة تسمى ( مقعد) لتجهيز مايخص العجين وغيره، وحجرة يوضع بها خزين البيت من دقيق وغيره، وأخرى تسمى (زريبة) توضع الماشية فيها ليلا وتسحب للإستخدامها فى الحقل صباحا قبيل شروق الشمس إلى قبيل الغروب، ودورة مياه أخرى، إلى جانب ممر صغير فى نهاية سلم يؤدى إلى سطح الدار .

 

أقوم أنا فور استيقاظ جدتى وأقف كثيرا على باب الدار لأشاهد وأسمع أصوات الحمام التى تقف أمام الدار على الأشجار وأسوار الدور الأخرى، وهذا أحد الأقرباء يسحب ماشيته للذهاب بها إلى الحقل، وسيدة قريبة لنا تلقى بأجمل عبارات الصباح ( إصباح الورد ياجمرة ـ تعنى ياقمرة )، وآخر يعمل مدرسا يمشى بثبات أترقبه من بعيد لأرى ماذا يحمل من كتب، وهذه بنت العم ومعها الكثيرات من بنات الجيران يحملن أوانى المطبخ التى تحتاج إلى تنظيف ليقمن بغسلها فى “الصهاريج” وهى عبارة عن عدة حنفيات بجوار بعضها البعض ( لعدم وجود مياه نقية فى المنازل) أو أى مكان يحتوى على ” طلمبة” ( مضخة للمياه من أعماق الأرض إلى سطح الأرض) .

 

وألتفت لأجد جدتى تفتح الراديو لسماع القرآن فى بداية اليوم، بعدها اسمع أم كلثوم تغرد ” ياصباح الخير ياللى معانا”، يأتى طعام الفطار ثم أسرع فى تناوله لأخرج وأجمع من هم فى سنى من الأصدقاء والأقرباء ونظل نلعب ونلهو حتى يأتى موعد طعام الغداء، ثم نستكمل اللعب حتى موعد صلاة المغرب، وبعد صلاه العشاء تسرع جدتى مع بعض الأقارب لتجهيز مكان على سطح المنزل وفرشه بالحصير وعدد من وسادات الكنب، لتناول طعام العشاء على ضوء القمر وقضاء سويعات من الليل من أجمل ماتكون نسمع فيها الروايات عن الأجداد تتخللها الفوازير والنكت، حتى أجد نفسى لا استطيع مقاومة النوم، فتذهب جدتى لغلق باب الدار، وتأخد بيدى للنوم وتحكى لى ما تحفظه من حواديت .

 

حين أسمع هديل الحمام منذ أن توفت جدتى إلى الآن، يذكرنى بكل ماسبق، بل أراه يمر أمام عينى كأنى أشاهد فيلما سينمائيا، حين أسمع هديل الحمام أشم رائحة بيت جدى الذى كنت اتمنى أن أولد قبل ذلك وأراه يوما قبل وفاته لأتلمس بيدى ملامح وجهه وأرتوى من شخصيته الحكيمة كما رواها  لنا والدى، هديل الحمام يسمعنى صوت جدتى وأتذكر خطواتها وملامح وجهها وضحكتها، هديل الحمام أشم من خلاله عبير وكرم الريف المصرى، الذى أفتقده الآن بعد أن طغت سمات المدينة وعاداتها على سمات وعادات أهل الريف .

مقالات ذات صلة

رأيك يهمنا شارك الان

زر الذهاب إلى الأعلى